️بين غزة وأوكرانيا: الحرب الكاشفة .
ذ. فؤاد هراجة
يكتسي المنهج المقارن في العلوم المعاصرة أهمية بالغة، سواء تعلق الأمر بالعلوم الإنسانية أو العلوم البحتة؛ ذلك أن هذا المنهج يُسَهِّل على الباحث إنجاز التحليل و التفسير والنقد والتقويم في نسق علمي متكامل. لهذا الغرض سأستدعي هذه الأداة لمحاولة فهم المزاج السياسي العالمي تجاه قضية الحرب، أقول المزاج السياسي في غياب قيم سياسية ثابتة تعمم على كل دول العالم. في ذات السياق، أؤكد أن إدراك حقيقة الحروب التي مرت بها غزة، لا يتأتى إلا من خلال مقارنتها بحرب بين دولتين كبيرتين، فضلا عن ذلك، فإن من شأن هذه المقارنة أن تكشف حقيقة القيم التي يتبناها المنتظم الدولي تجاه الدول العربية الإسلامية خاصة والدول المستضعفة عامة .
بداية أدعو القارئ(ة) الكريم إلى التحلي بالصبر وطول النفَس أمام كثرة المعطيات التي سأبسطها، والتي لا يمكن للمقارنة أن تتم إلا بها.
1/ قطاع غزة: الحروب الصهيونية ومواقف العالم.
غزة مدينة ضاربة في التاريخ، أسسها الكنعانيون سنة 1500 قبل الميلاد، وتعرضت للغزو على الدوام من طرف الإغريق والرومان والبزنطيين والمغول والصليبيين، ثم سقطت في يد الاحتلال البريطاني سنة 1948، وبعدها في يد الاحتلال الصهيوني سنة 1967، ونتيجة للانتفاضة العارمة التي اندلعت سنة 1987 والتي استمرت لعقدين من الزمن، انسحب منها المحتل الصهيوني. وفي سنة 2006 نجحت حركة المقاومة الإسلامية حماس في الانتخابات التشريعية باغلبية مريحة مكنتها من تشكيل حكومة وطنية، لكن مزاج المنتظم الدولي لم ترقه نتائج الديمقراطية الفلسطينية، فأعلن عدم اعترافه بالحكومة المنتخبة، واقام حصارا صارما على غزة صيف 2007، تم بموجبه منع أو تقنين:
– دخول المحروقات ومواد البناء والكثير من المواد الأساسية.
– منع الصيد في عمق بحر غزة.
– ترك معبر بري واحد للغزاويبن يسمح لهم بالخروج والدخول، وهو معبر رفح الحدودي مع مصر، مع تحديد حصة 250 شخص فقط في اليوم.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا الحصار شمِل مليونين و 400 ألف فلسطيني، في رقعة جغرافية لا تتعدى 365 كلم مربع، طولها 41 كلم وعرضها يتراوح بين 5 و16 كلم، أي بمعدل 8333 نسمة/كلم المربع. والنتيجة تسجيل أعلى نسبة بطالة في العالم بلغت 80٪، ونقص حاد في الطاقة، والمواد الغدائية، والأدوية، والمعدات الطبية. وإضافة إلى هذا الوضع الانساني الكارثي الذي تحول معه قطاع غزة إلى أكبر سجن في العالم، سيشن عليه الكيان الصهيوني 5 حروب على النحو التالي:
* 2008 عملية شتاء ساخن: أو محرقة غزة كما سماها ايهود باراك، والتي دامت 5 أيام مخافة 116 قتيل.
* 2008/2009 معركة الفرقان التي دامت 21 يوما من 27 دجنبر إلى 18 يناير.
خلال هذه الحرب، ووَفق تقارير دولية، تم استخدام مليون كيلوغرام من المتفجرات على غزة، استعملت فيها قنابل الفسفور الأبيض، وقنابل اليورانيوم المخفف، والنتيجة حسب مؤسسة توثيق:
– 1436 شهيدا (منهم 400 طفل و204 نساء و100 مسن) و5400 جريحا،.
– هدم 4100 بيت كليا، و17 ألف بيت جزئيا.
كلفت هذه الحرب حكومة غزة مليار دولار.
الغريب في هذه الحرب أن رؤساء الدول العربية التزموا الصمت حيال العدوان ولم يجتمعوا إلا قبل يوم واحد من وقف إطلاق النار في الدوحة، أي بعد مرور 20 يوما من القصف والدمار، وفي هذا إشارة واضحة إلى الدور المنوط بالجامعة العرببة من قبل الاستكبار العالمي.
* نوفمبر 2012 حرب حجارة السجيل، التي دامت 8 أيام مخلفة ما يلي:
– 162 شهيدا، و1300 جريحا،
– هدم 200 بيت كليا و1500 جزئيا
* يوليوز 2014 معركة العصف المأكول، استمرت 51 يوما وخلفت:
– 2322 شهيدا، و11 ألف جريح
– هدم 12 ألف بيت كليا، و160 ألف جزئيا
– استهداف المساجد والمستشفيات في خرف سافر لمعاهدات الحرب الدولية.
قُدّرَت خسارة هذه الحرب ب 5 مليار دولار.
* ماي 2021 معركة سيف القدس، دامت 11 يوما، وخلفت: 260 شهيدا، و8900 جريح بين غزة والضفة الغربية.
خلال هذه الحروب الخمسة كانت مواقف المنتظم الدولي على النحو التالي:
– تحميل حركة حماس وفصائل المقاومة ما يقع للفلسطينيين جراء الحرب الصهيونية.
– صمت مخجل للعواصم العربية خاصة والغربية عامة.
– فشل مجلس الأمن في إدانة ”إسرائيل“ بسبب الفيتو الأمريكي.
– المساواة بين الفلسطينين الضحايا الذبن يدافعون عن أرضهم وأنفسهم، والمغتصب الصهيوني الغاشم.
– لعب الجامعة العربية دور الإطفائي عند اقتراب انتهاء كل حرب أشعلها الكيان الصهيوني، بحثا عن مخرج لجرائمه وحفظا لماء وجهه.
– تجفيف منابع كل الجمعيات والهيئات والمؤسسات الخيرية المدعمة للفلسطينيين، والزج بها في تهمة الإرهاب إن هي استمرت في الدعم.
والخلاصة، أن الفلسطينيين كانوا ولا زالو تحت حصار صهيوني عربي و عالمي. وعلى الرغم من كل هذه المعطيات المثبطة والمحبطة تخرج المقاومة ومعها الشعب الفلسطيني من كل حرب مرفوعي الرأس، حيث لم نشهد قط تلويحا بالراية البيضاء، بل عشنا بكل اعتزاز وافتخار صمودا أسطوريا للمقاومة الباسلة أمام جيش يتمتع بكل أسلحة العالم شرقه وغربه. إننا ونحن نستحضر ما صنعته المقاومة في ظل التواطؤ الدولي والإقليمي العربي، يجعلنا نقف إجلالا وإكبارا لهؤلاء المجاهدين الذين يفاجؤوننا في كل حرب بتطوير الأسلحة، وإبداع الخطط بإمكانيات جد محدودة وقليلةجدا. كما أن ما يثير الانتباه في كل هذه الحروب، أننا لم نر حركة نزوح لا فردية ولا جماعية هروبا من الحرب في غزة على ضيقها وصغرها، فالكل بقي صامدا، المقاومة وحاضنتها الشعبية؛ وهذا لعمري موقف نادر في تاريخ البشرية! فكلنا يتذكر ضرب الطائرات الصهيونية لمعبر رفح سنة 2012 في محاولة يائسة لتشجيع السكان على النزوح، لكن الغزاويين لقنوا المحتل درسا في الوطنية والتشبت بالأرض.
ولنا أن نتخيل اليوم كيف يتعامل العالم الغربي مع أوكرانيا في حربها مع روسيا، وكيف يمدها بكل أشكال الدعم كي لا تسقط وكي تبقى صامدة، مع العلم أن أوكرانيا ليست هي غزة المحاصرة، وضرب روسيا كما تنقله وسائل الإعلام لا يشبه العربدة الوحشية الصهيونية، وهنا نجد أنفسنا مضطرين إلى بسط معطيات مقتضبة على أوكرانيا حتى تتسنى لنا المقارنة المرجوة.
2/ أوكرانيا: قبل وأثناء الحرب.
أوكرانيا دولة مستقلة منذ غشت 1991، مساحتها 603 ألف و505 كلم مربع، وعدد سكانها 42 مليون وسبعماىة ألف نسمة، أي 77 نسمة في كلم مربع، ولك أن تقارن هذه المعطيات مع غزة. الناتج المحلي الإجمالي لأوكرانيا يقدر ب 359 مليار و900 مليون دولار، في المرتبة 29 عالميا. إنها تعد ثاني أكبر جيش في أوروبا بعد روسيا، كما أنها تمتلك مفاعلات نووية، ورائدة في صناعة السيارات والمركبات الفضائية والطائرات والشاحنات، ولها أيضا 6 أقمار صناعية، و101 مركبة إطلاق من صنع محلي، دولة رائدة في صنع الصواريخ والتكنولوجيا المرتبطة بها، فضلا عن ذلك تعتبر سلة غداء عالمية، بل تعد ملاذا لضمان وتوفير الأمن الغدائي للعديد من الدول في أوروبا والمنطقة العربية واسيا وأمريكا اللاتينية. ضف إلى ذلك أنها دولة يصعب محاصرتها لأنها تقع في حدود 7 دول، عكس قطاع غزة.
ومع كل هذه المعطيات، ومع أن القاعدة تقول ”لا قياس مع وجود فارق“ إلا أننا نعاين اليوم ما يلي:
– اصطفاف كل العالم الغربي وحلف النينو إلى جانب أوكرانيا. ( صمتها المطبق إبان الحرب على غزة)
– تقديم الدعم العسكري المتكامل لأوكرانيا من طرف الدول الغربية.( تفتيش كل السفن التجارية ومراقبة كل الحدود خشية وصول السلاح للشعب الفلسطيني محتل)
– تجييش كل المؤسسات السياسية والاقتصادية والرياضية والثقافية والفنية لحصار روسيا ( في المقابل احتضان اسرائيل في الأسرة الأوروبية رياضيا وثقافيا رغم كل جرائمها)
– إعلان الأنظمة الأوروبية النفير العام لجمع التبرعات المالية، وتحفيز المتطوعين للالتحاق بالجيش الأوكراني. ( اعتبار المساعدات المقدمة للفلسطينين مشاركة في دعم الارهاب)
– دعم كل وسائل الاعلام الغربية لأوكرانيا بغية شحد همم الرئيس الأوكراني وحكومته وشعبه على الصمود.
– تجميد الأموال الروسية وإخراجها من منظومة Swift، وفرض حصار على كل النخبة السياسية المؤيدة للحرب ( في حالة حرب ”إسرائيل“ على غزة يتلقى الكيان الصهيوني بعد كل حرب شنها المزيد من الطائرات والصواريخ والدعم المادي).
ورغم كل هذه الإمكانيات التي تتوفر عليها أوكرانيا سلفا وأصلا، تنهال عليها المساعدات علها تبقى صامدة ولا تسقط بين مخالب الدب الروسي. وهنا نتساءل:
– ماذا لو توفرت للمقاومة الفلسطينية 10 بالمائة من مثل هذه الإمكانيات في مواجهتها للكيان المحتل؟
– ماذا لو تركت الحرية للعالم العربي والإسلامي في دعمه لفلسطين كما هو حال الدول الغربية مع أوكرانيا.
– ألا يعد ما حققته المقاومة الفلسطينية أمام كيان مدعم من الشرق والغرب معجزة هذا القرن؟
– ألا تستحق منا هذه المقاومة، التي واجهت ولا تزال كل ألوان الحصار، أن نصطف إلى جانبها بكل الوسائل،وخاصة من خلال مقاومة كل أشكال التطبيع؟
– ألم يئن الأوان لكل الحركات الإنسانية المدعمة للحق الفلسطيني أن تخرج من غلاف الخوف وتتحدي الصهيونية العالمية معلنة دعمها المادي والمعنوي دونما مواراة ورفع التجريم عن هذا الواجب الإنساني ، كما تفعل اليوم دول الغرب مع أوكرانيا الواقعة تحت الحرب.
– ألا تشكل الأنظمة العربية الخاضعة لدول الاستكبار العالمي أكبر عقبة لتحرير فلسطين كل فلسطين، مما يستوجب النضال الاستراتيجي لإزالتها في أفق إزالة الطوق عن فلسطين؟
ألا يخسأ المبخسون للمقاومة الفلسطينية وهم يتابعون دولة بكل إمكانياتها تعاني في تدبير الحرب، في الوقت الذي تنتصر فيه المقاومة بامكانيات وأسلحة من صنعها المحلي على خامس أقوى جيش في العالم، والذي طالما نعت نفسه بالجيش الذي لا يقهر؟
– ثم ألا تعني مظاهرات أحرار العالم مع الشعب الفلسطيني أثناء الحرب والحصار، أن ثمة أحرار في العالم الغربي ينتظرون منا أن نضع أيدينا في أيديهم لتطهير العالم من دنس وخبث الصهيونية وسليلتها النيوليبرالية المتوحشة؟
وقصارى القول، أرجو أن تكون هذه المقارنة قد مكنتنا من الكشف عن حقيقة العالم الغربي الذي لم تعد أخلاق الترف وقيم الرفاه والشذوذ التي نخرته، تسعفه على تحمل أي تدافع مستقبلي، مما يؤكد حتمية سقوطه، إن نحن وُفِّقنا في تجاوز أنظمة العار التي تحكمنا، وبعدها نجحنا في توحيد الشعوب والأقطار المستضعفة، حينها فقط يمكن أن نعلن نهاية غطرسة القطب الامبريالي الواحد، دوننا وهذه الغاية مسافات تتطلب بذل وتضحيات، تواصل وتوافقات، ثم تغليب أولوية عتق رقبة الإنسان، على كل المصالح الذاتية والحزبية والطائفية الضيقة.
إنني وانا أضع هذه المقارنة كلي أمل ورجاء أن تتوقف الحرب وتنطفئ نارها، ويختفي تجار الحرب، وتجار حالة الحرب الذين يحكمون العالم باسم الشعوب، ليفسحوا المجال أمام المؤمنين بالكرامة الإنسانية أن يبنوا عالما أخوياجديدا يتسع للجميع.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
الرباط: فاتح شعبان 1443 الموافق 4 مارس 2022م