الأجيال الجديدة وتحدي صناعة الثروة
يحكي فيلم « في الوقت المحدد » In Time (عام 2011) عن عالم مستقبلي للبشر العملة الأساسية فيه هي الوقت، ويُعْرَض رصيد كل شخص من الوقت عن طريق ساعة على ذراعه، والوقت الذي يملكه كل إنسان هو قوته وثروته وكل ما يملك للبقاء حيّاً وإذا استنفذ رصيده من الوقت يموت. وبطبيعة الحال ينقسم الناس في هذا العالم (كما في أي عالم فلا داعي للمثاليات الحالمة) بشكل حاد إلى طبقتين اجتماعيتين بناء على ما يملك كل واحد من الوقت الذي يحدد مكان تواجده ونمط معيشته.
في هذا العالم (كما في أي عالم) يوجد مكانين وزمانين يسكنهما الناس:
– مكان للفقراء (إقليم دايتون) حيث البيئة الوَسِخَة والهواء المُلوّث والحياة البشعة والسريعة والكدح والركض والتعب والتوتر والإحباط والاكتئاب والعمل بلا راحة للحصول على القليل من الوقت الذي يمنح القليل من الحياة (أغلب سكان دايتون يملكون أقل من يوم واحد للعيش!) ويحمي من التشرد ويكفي بالكاد للأكل والنوم وإعادة إنتاج منظومة العبودية.
– مكان للأغنياء (إقليم نيو جرينيتش) الذي يسكنه الذين يملكون الكثير من الوقت الذي قد يصل إلى آلاف وملايين السنوات وحيث البيئة النظيفة والهواء النقي والحياة الجميلة والآمنة والهادئة والبطيئة واللهو والسهر والأكل بطيء والمشي بطيء والرياضة بطيئة وكل شيء بطيء وتضييع الوقت دون خوف عليه لأنهم يملكون الكثير منه.
هذا ما تقوله مدرسة السينما، تلك العين المفتوحة على العالم من خلال خليط ذكي من الحقيقة والفرجة، أما مدرسة الواقع فحسب التقارير السنوية عن الثروة العالمية، يمتلك 1% من سكان العالم ما يقارب 50% من ثرواته، وعلى الجانب الآخر من الطيف المرئي (يوجد طيف غير مرئي)، يتقاسم 50% من سكان العالم من الأشخاص الأشد فقراً ما يقارب 2% من ثروة العالم.
هذا النوع من التقارير يعتمد التحليل الاقتصادي المحض (الطيف المرئي)، لكن لو اعتمدنا التحليل الاجتماعي وقمنا باحتساب الطيف غير المرئي (الأشكال الجديدة للفقر، الأشكال المتعددة للمال، أسعار الصرف المحددة اجتماعيا…) فإن هذه النسبة سترتفع بشكل مهول، وسنكتشف أن 95% من سكان العالم يتقاسمون 5% من ثروة العالم.
هذه الأرقام لم تعد تزعج أحداً أو تحرك ساكناً، مثل كل صور الموت والدمار التي نراها كل يوم ولا تحرك فينا ساكنا. التضخم مَرَّ من هنا بكثافة معلوماته وسرعة وتيرته فأفقد الكثير من عوامل الإحياء أهميتها وفعاليتها. يبدو أن عنصر المفاجأة قد انتفى، وانتفت بالتالي حالة الضرورة.
لكن المفاجأة في هذه التقارير مؤخراً هي وضعية الأجيال الجديدة (جيل Y و Z)، فقد رصدت هذه التقارير أن الأمور لا تسير في صالح هذه الأجيال، فأفراد الأجيال الجديدة يجدون صعوبة أكبر في بناء ثروة خاصة بهم. فما السبب؟
تذكر التقارير بعض أسباب معاناة الأجيال الجديدة؛ كالبطالة، وارتفاع التفاوت في الدخل، وتشديد شروط الائتمان، والزيادة الواضحة في ديون الطلاب. مرة أخرى التحليل الاقتصادي المحض يقوم بدوره في إخفاء العوامل الاجتماعية. إنها لعبة الإخفاء التي تحتاج إليها السلطة لمضاعفة مفعول هيمنتها، لم يعد للتحليل الاجتماعي مكان في عالم يهيمن فيه التحليل الاقتصادي.
إن الأجيال الجديدة هي ضحية الغيبوبات السعيدة التي سيطرت على وعيها، والأحلام المُجَنَّحة التي تحكمت في إرادتها. تضافرت جهود تعليم فاشل مع تكنولوجيا الشبكات الاجتماعية المسطحة للقضاء على العقول الناقدة والإرادات الحرة. وتضافرت جهود صناعة الرغبات مع فنون التسويق الجديدة (التسويق العصبي، والتسويق العنكبوتي…) للقضاء على الإرادات المستقلة.
إن التعليم غير مصمم لبناء العقول الناقدة والإرادات الحرة، وإنما هو بالعكس تماما مصمم لإعادة إنتاج نفس التفاوتات الاجتماعية. وتكنولوجيا الشبكات الاجتماعية غير مصممة للتمييز بين الحقائق والأباطيل أو التحقق من الدقة أو تصحيح الأخطاء. بل هي بالعكس تماما مبنية لتعظيم عدد النقرات والمشاركات والإعجابات. والتسويق العنكبوتي والهرمي غير مصمم لإغناء الجميع، وإنما هو مصمم لإغناء فئة قليلة جدا تكاد لا تتجاوز المؤسسين أنفسهم بحكم حدود نموذج العمل وارتباطه برهانات أخرى غير مالية.
مع الأجيال الجديدة تراجع فهم قضايا الصراع والسلطة بمختلف أشكالها وفهم العمليات المرتبطة بالهيمنة والخضوع، كما تراجعت ثقافة المقاومة التي استبدلت بثقافة الركوب السلبي للموجات. والنتيجة هي فهم مُغرق في السطحية للعبة المالية وصناعة الثروة، وهذا ما جعل الأجيال الجديدة عُرضة للتضليل والتلاعب والاستغلال.. كان الله لسفراء النوايا الحسنة!